عبد المتعال أفندى باشرى "السفرجي الخصوصي لملك مصر والسودان"
أنا السفرجي الخصوصي لمولانا جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وصاحب بلاد النوبة ودارفور وكردفان، وأؤكد أنني كنت لصيقًا بجلالته ووثيق الصلة به لدرجة ربما لن يصدقها معظمكم ..
أنا لم أكن أفارقه لساعة واحدة سواء في سراي عابدين العامرة أو سراي القبة أو غيرهما من سرايات واستراحات القاهره ..
جواز سفري المخصوص متخم بتأشيرات سارية إلى معظم دول العالم وملوك العالم ورؤساؤه يحفظون شكلي، ومعظمهم يعرفونني بالاسم ..
البداية ..
البدايه كانت في عام 1908 عندما جئت إلى الدنيا، كان خالي جعفر حسين في إجازة بقريتنا توشكى النوبية الواقعة جنوب أسوان، مازح الخال والدي قائلًا : عبدالمتعال معي في قصر الخديو ياحاج إسماعيل، وظيفته محجوزة مقدمًا،فقد كان خالي جعفر وابنه حسن طباخين في السرايات الخديوية ..
وأنا في الثامنة من عمري، جاء خالي ليصطحبني معه إلى القاهرة للعمل هناك، كنت في شوق إلى رؤية مصر المحروسة التي طالما راودتني في الأحلام ..
وصلنا إلى منزل خالي في عابدين وقال لي : عبدالمتعال أنت الآن رجل وسوف تعمل وتكون مسؤولًا عن نفسك وعن أبيك وأمك ثم عن زوجتك وأولادك و سوف تعمل في مكان يحسدك عليه الوجهاء والأعيان، وستكون في معية السلطان ولكن بعد عام أو عامين، سآخذك الآن إلى مطعم الخواجة "ألبرتو" حيث ستعمل "مرمطون" ..
المطعم كان يوجد في شارع المدابغ، أجرك قرش صاغ فى اليوم، أي ريال ونصف كل شهر، أحتفظ بربع ريال وأرسل الباقي إلى أبيك، أما انا فلا أريد منك شيئا سوى أن أراك رجلا ..
دخلنا مطعم الخواجة ورحّب الرجل بخالي ودعاه إلى شرب القهوة، أشار ناحيتي سائلًا، أنت عبده؟ انحبس الكلام في حلقي أومأت برأسي : "نعم" ..
ظللت شهرًا أعمل أي وكل شيء، أي "مرمطون"، بدأت اتخصص في تفريغ الصحون من بقايا الأكل في مكان مخصوص ثم تسليمها إلى مساعد غاسل الصحون الذي ترقيت ونلت وظيفته، كنت استمع لكل كلمة، بل كل حرف يقوله الخواجة أو رؤسائي في المطبخ وأنفذه بدقة متناهية ..
ترقيت من مساعد غاسل للصحون إلى غاسل لها ثم صبي مساعد الطباخ وعرفت كل دقائق المهنة وأسرارها ..
رفع الخواجة أجري إلى نصف ريال في الأسبوع وكافأني بالنزول إلى الصالة مساعد جرسون، حيث ظهرت مواهبي الدفينة، فمَن لم يتعلم المهنة في مطعم إيطالي فهو على المهنة دخيل ..
عامان ونصف العام قضيتها في خدمة الخواجة ألبرتو، ها أنا أغادره باكيًا منتحبًا، يربت الخواجة على كتفي و يضع في جيبي جنيها كاملًا كمكافأة نهاية خدمة يؤكد أنه وخالي اختارا لي الأصلح، وما هو الأصلح؟ إنه الخدمة في سراي حضرة صاحبة العظمة الوالدة باشا ..
الدخول الي القصر ..
أدخل إلى القصر لأول مرة في صبح خريفي بصحبة خالي. كأنني أرى الدنيا لأول مرة، وأتجه إلى حيث المطبخ لأعمل مع خالي، مرمطونًا أعود لأبدأ السلم من أوله من جديد وأترقى فيه أيضاً من جديد ..
رغم نبوغي في الطبخ إلا أنهم اختاروني للعمل في "السيرفيس". قرابة السنوات الخمس قضيتها في البدرومات حتى جاءت لحظة ظهوري إلى النور وصعودي إلى قاعة الطعام السلطانية ..
مازلت أذكر "كركبة" بطني، ارتعاش أطرافي،احتباس صوتي، كل هذا رغم وقوفي بعيدًا على رأس ترابيزة توزيع فرعية ..
لم يكن أبي يفكر في احتمالية أن يرى مأمور مركز الدر، وها هو ابنه ابن الخامسة عشر يرى جهارًا السلطانة ملك، والسلطان فؤاد، وزوجته نازلي، وكل أمراء وأميرات الأسرة المالكة ونبلائها، أسابيع قلائل، بعدها وصدر قرار تعييني موظفًا منتظمًا لا مؤقت ..
في تحقيق الشخصية الذي استخرجوه لي يكتبون في خانة المهنة سُفرجي، وأمام محل الإقامة سراي عابدين ..
في يناير من عام 1924 انتقل للعمل في السلاملك سفرجيًا درجة ثانية ويقفز راتبي من تسعة ريالات إلى جنيهين ونصف، أمارس دور السفرجي الأول في أوقات الأزمات بلا وجل واعتدت التخديم على السفراء والوزراء والنبلاء، بل حتى الضيوف من الرؤساء والملوك، ولكننى لم أكن أبدًا "البريمو" حتى جاء الفاروق ..
أصبحت السفرجي الخصوصي للملك ..
في أكتوبر من عام 1936 أي بعد شهور ستة من تولى مولانا، صدر الناطق السامي بأن أكون السفرجي الخصوصي لجلالته،كان وديعًا،هاشًا باشًا،رقيقًا كالنسمة، طيبا عطوفا ..
في بدايات حكمه كان أكولًا ولكن بحدود، دخل لاحقًا في مرحلة النهم،عندما كانت قاعة الطعام تخلو من الضيوف ويكون بمفرده كان يثرثر معي :
إزيك يا عبده؟ طول ما مولانا بخير الدنيا كلها بخير، الناس مبسوطة يا عبده؟، بيقبّلوا الأعتاب يا مولانا ..
أنسانية الملك ..
أذني تعمل قبل يدي وعيني تعمل قبل أذني، أراقب رموش عينيه، انحناءة أطرافه،التفاتة عنقه، بَدْء تحرك أصابع يديه، أعرف قبل أن ينطق متى أضع طبق اللحوم،متى أغير نوع السلطة،متى أرفع الشوربة، متى أزيد من المكرونة، لو انتظرته حتى يطلب كان جديرًا بي أن أنسحب من عملي، بل أنسحب من الحياة كلها، عقب أن رزقه الله بابنته الأولى، وزعوا علينا الهبات في القصر، ولكننى عندما رأيته في العشاء بعد عودته قبّلت يده، وقلت : ربنا يحفظ سمو البرنسيس،ضحك بصفاء قائلًا : شد حيلك أنت كمان يا عبده، ده أنت أكبر مني بأكتر من عشر سنين يا راجل، لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء الشديد، انزعج مولانا وتغير وجهه وسألنى مالك؟، أجبته مندهشًا : مولاي يعلم أنني لم أنجب بعد؟ مولاي يهتم بي لهذه الدرجة؟ ضحك من جديد وأخرج من جيبه خمس ورقات كل واحدة بعشرة جنيهات، وعاد يقهقه قائلًا : الملك الذي لا يعرف تفاصيل حياة أقرب الناس إليه كيف له أن يعرف تفاصيل حياة ثمانية عشر مليونًا من رعاياه ؟
في العام التالي رزقني الله بابنى فؤاد، وبعدها بعامين بابنتي الأخيرة فاطمة،وفي المرتين كان جلالته يعرف يصافحني ويخرج من جيبه هدية المولود ..
طُفت معه العالم كله، ولم تعد المسألة مجرد أكل عيش واسترزاق، بل أصبحت مسألة روح واحدة متوزعة على جسدين ..
كلكم يعلم ما حدث في يوليو 52، صاحبته إلى الإسكندرية، وعندما كنت أتسلل إلى المحروسة رآني، وقال لي : ارجع يا عبده عيالك لسه صغيرين ..
الوداع الأخير والأستقاله ..
بكيت بحرقة، ونهنهت كالأطفال، وتشنجت.
، ارتميت تحت قدميه، توسلت إليه أن أبقى معه، وهو يقول لي : ارجع لعيالك يا عبده، سحبني الحرس وعدت إلى القصر، وتقدمت باستقالتي التي وقع عليها اللواء نجيب، وودعت القصر، وودعت مولانا ..
سيرة عبدالمتعال أفندي باشري السفرجي الشخصي للملك فاروق، وهي مستمدة ومستوحاة من مجموعة من الوثائق الخاصة بيه ..
المصدر : صفحة الملك فاروق
إرسال تعليق