كثيراً ما نسمع عن حكاياتٍ لأشخاصَ علقوا في أماكنَ بعيدةٍ أو عميقةٍ أو محاطةٍ بالخطر لمختلف الأسباب؛ إلا أننا اليوم سنتحدث عن شخصٍ علقَ في مكانٍ مخصصٍ بطبيعته للسفر والتنقل والوصول حيثما نريد..
عاش السيد (مهران كريمي ناصري) أو “السير ألفريد” كما عُرف لاحقاً في هذا المكان، ومثلما يتصرف الجميع في منازلهم كان “السير ألفريد” ينام ويسترخي ويأكل ويشرب؛ لكنَّ الفرقَ الوحيد هو أنَّ منزلهُ كان الصالة الأولى في مطار (Charles de Gaulle – شارل ديغول)، الذي يبدو مثلَ فطيرةِ (دونات – Donut) بطابعٍ ستاليني -نسبةً إلى جوزيف ستالين-.
معظمكم قد يتمالكهُ الضيقُ الشديدُ عندما تتأخر رحلاته عدَّةَ مراتٍ لسببٍ أو لآخر؛ فتشعرون أنكم علقتم في المطار إلى لأبد، ولكننا نؤكِّدُ لكم أنكم لن تعلقوا كما علق “السير ألفريد” الذي وصل إلى مطار (شارل ديغول) عام 1988 ولم يغادره حتى عام 2006 بسبب فجوةٍ في الإجراءات البيروقراطية.
وُلد “السير ألفريد” في إيران ضمنَ عائلةٍ ميسورة الحال حيثُ كان والده يعمل طبيباً في شركةٍ للنفط، ولكنه في السابعة والعشرين من عمره شارك في التظاهرات المناهضةِ للشاه، وانتهى به الأمر منفياً خارجَ البلاد بعد أن سُحبت منه الجنسية قبل أن يسقط الشاه، وبذلك أصبحَ “السير ألفريد” دون جنسية.
حالياً يوجدُ شخصٌ واحدٌ من كلِّ 750 شخصاً حول العالم لا يحملونَ جنسيةَ أي بلد، وللأسف تحمل هذه الصفة مساوئَ كثيرةً تفوقُ التهرب من الضرائب والقوانين؛ إذ يفقد الإنسان معها الكثير من حقوقه القانونية وقدرته على التنقل، وهناك الكثير من الطرائقِ ليفقدَ الإنسانُ جنسيته، ومن أهمها التآمر على إسقاط الحكومة كما اتُهمَ “ألفريد”، الذي انتقل بين عدة بلدانٍ قبل أن يصلَ إلى بلجيكا -والتي تُعتبر فرنسا صغيرة- حيثُ سمحت له باللجوء فيها.
وبعد أن توفّي والده؛ كشفت أمّه أنها ليست والدته الحقيقية وأنه وُلد نتيجة علاقةٍ عاطفيةٍ بين والده وممرضة اسكتلندية، بسبب ذلكَ فقد “ألفريد” حقوقه في ميراث والده بحسبِ القوانين الإيرانية ولكنه في نفس الوقت أصبح قادراً على الحصول على الجنسية البريطانية، ولأنه لا يحمل أية جنسية؛ أراد “ألفريد” الذهاب إلى بريطانيا ليحاولَ الحصول على جنسيتها لكنَّهُ أضاع أوراقَ لجوئه؛ إذ يدَّعي أنها سُرقت منه فيما يقولُ البعض أن تخلّص منها عمداً.
بسببِ روايته لما حدث معه آلافَ المرات دون أن يلتزم بالدقة؛ فقد تجدون العديد من الاختلافات بين المقالات التي تتحدث عنه، ولكن تُجمِعُ معظمها أنَّهُ ذهب من فرنسا الصغيرة -بلجيكا- إلى باريس حيث سافر من مطار شارل ديغول إلى لندن بطريقةٍ ما، وهو ما لم يكن يجب أن يحدث؛ لأنَّ السفر الدولي يحتاج إلى جوازِ سفرٍ ساري المفعول و(فيزا)؛ وهما شيئان لم يكونا في حوزة “السير ألفريد”..
في أيامنا هذه تُعاقَبُ شركات الطيران بما يقاربُ 3500 دولاراً عن كُلِّ مسافرٍ تنقله دونَ الأوراق اللازمة، كما يُفرض عليها إعادته إلى المطار الذي سافرَ منه مجاناً، وهو ما حدث مع “السير ألفريد” عند وصوله إلى المملكة المتحدة؛ إذ أُرسِلَ إلى مطار (شارل ديغول – الصالة الأولى)، وهناك لم يستطع الدخول إلى فرنسا لنفس السبب الذي منعه من دخول المملكة المتحدة، وفي هذه الحالة عادةً يتُمُّ ترحيل هؤلاء الأشخاص إلى وطنهم الأم حيثُ يمكنهم الدخول في الحالات الخاصة من غير جواز السفر، لكنَّ “السير ألفريد” لم يكن يحمل أيةَ جنسيةٍ لذا لم يكن قادراً على الدخول إلى فرنسا أو الذهاب إلى أي مكان آخر خارج مطار (شارل ديغول).
عاش “السير ألفريد” على مقعدٍ صغيرٍ لثمانيةَ عشرَ عاماً بعد قضائهِ وقتاً قصيراً في سجن المطار، ولحسنِ الحظ تمتلكُ المطاراتُ كلَّ ما يحتاجه المرء من حماماتٍ ومطاعمَ وحتى الطبابةِ المجانية بسبب بعض القوانين الاشتراكية التي نجدها مألوفةً في فرنسا.
حاولَ البعض تدبيرَ أوراق اللجوء “للسير ألفريد” من بلجيكا ولكن للحصول عليها كان عليه أن يسافرَ إلى بلجيكا، وللسفرِ إليها كان يحتاج إلى أوراقِ اللجوء..
تماماً؛ لقد علق “السير ألفريد” في حلقةٍ مفرغةٍ من البيروقراطية..
والجديرُ بالذكرِ أنَّ “السير ألفريد” كان يعيش في المنطقةِ الدولية في المطار؛ لذا كانت مغادرته هذه المنطقة مخالفةً للقوانين حتى لو لم يكن هناك من يمنعه من رجال الأمن.
بعد عشرِ سنواتٍ عرضت عليه كلٌّ من فرنسا وبلجيكا الإقامةَ فيهما، لكنَّهُ رفضَ التوقيعَ على الأوراقِ لأنه اعتُبر فيها إيرانياً؛ وهو الشيء الذي لم يتقبله أبداً.
ادعى بعض الناس أنَّهُ بدأ يفقد قواه العقلية مع مرور السنوات ولكن
يمكننا تفسير ذلك بأنه قد اعتاد على منزله الجديد الذي كوّن صداقاتٍ فيه.
اعتمد “السير ألفريد” على مدخراته خلال السنين الأولى؛ فقد كان يوجدُ فروع
للبنوك في المطار، كما تلقى بعضَ المال من المسافرين الذين سمعوا بقصتّه.
نشر سيرته الذاتية عام 2004 أثناءَ إقامته في المطار ما ساعده في الحصولِ على المزيدِ من المال بالإضافة إلى 250,000 دولار دفعتها له شركة (دريم ووركس – DreamWorks) التي أنتجت فيلم (ذا تيرمينال – The Terminal) والذي أخرجه (ستيفن سبيلبرغ) من بطولة (توم هانكس) مع أنَّ الفيلمَ لم يكن اقتباساً عن سيرة “السير ألفريد” ولكن بسبب تشابه الأحداث، فقد كان المبلغُ الماليُّ هو حمايةٌ للشركةِ المنتجةِ من أي دعوى قضائية قد يرفعها “السير ألفريد”.
أصرَّ “السير ألفريد” عبرَ مقابلاته في تلك الفترة أنَّهُ على بُعدِ
أسابيعَ من مغادرةِ المطار، لكنه لم يغادره بإرادته؛ فقد تمَّ إسعافه عام
2006 بسبب مشاكلَ صحية، وبدلاً من العودةِ إلى المطار انتقل “السير ألفريد”
للعيشِ في ملجأ للمشردين وبقي فيه حتى الآن..
إرسال تعليق